المادة    
ثم أجاب أصحاب هذا المذهب عن كلام أولئك الذين خالفوهم فقالوا: أما حديث معاوية : ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً )؛ فإن (عسى) فيه للترجي، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين فإنه لا ينتفي وقوع ذلك في إحداهما، وهي القتل؛ لما ذكرنا من الأدلة، أما من مات كافراً فالنص ثابت في أن الله لا يغفر له أبداً، وأما من كان ذنبه القتل وليس الكفر فهذا نحكم فيه أيضاً ما جاء من آيات الشفاعة وأحاديث الشفاعة، ونحو حديث دخول من قال: لا إله إلا الله الجنة، وكذلك النصوص الكثيرة التي تدل على أن من كان من أهل التوحيد لا يخلد في النار إن دخلها، فإما أن لا يدخلها، وإما أن يدخلها ولا يخلد فيها تخليد الكافر، وإنما الخلود مقيد بأمد معين.
وقالوا في الجواب عن استدلالهم: هناك فرق بين قبول التوبة وبين سقوط المطالبة، فقد يتوب القاتل بأن يصدق مع الله ويخلص لله ويندم على ما فعل ويستقيم إلى آخر عمره وهو تائب نادم على ما فعل، بل قد يسلم نفسه إلى ورثة المقتول ليقتصوا منه.
فهذا شيء ومطالبة المقتول إياه شيء آخر؛ إذ إن مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة حق من حقوق الآدميين لا يسقط بالتوبة، ولا فرق في حقوق الآدميين بين المقتول والمسروق منه، وكذلك سائر الحقوق الأخرى، فإذا كانت القضية عندكم قضية المطالبة يوم القيامة فإنا نقول لكم: هذا ليس في القاتل وحده، بل كل من أخذ حقاً من حقوق العباد فإنه قد يتوب ويقبل الله توبته في الدنيا، لكن لا تسقط عنه يوم القيامة مطالبة المأخوذ منه حقه، فلا بد من أداء حقوق العباد إليهم.
قالوا: لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، فمن رحمة الله تعالى أنه يقبل التوبة منه إذا تاب وصدق، ولا يوقع عليه الجزاء، وفي نفس الوقت يفتح باب المطالبة للمقتول، فيكون قد تحقق الأمران: التوبة لهذا والمطالبة لهذا، وهذا من عدل الله وحكمته تبارك وتعالى، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ثم يفضل له أجرٌ يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته ونحو ذلك، فالله يعوضه كما يشاء ويعطيه كما يشاء حتى يرضى عن القاتل؛ لأن القاتل عبدٌ صالح منيب تائب في مثل هذه لحالة، هذا مجمل تخريجهم الأول لنصوص امتناع توبة القاتل.
والتخريج الثاني تخريج لقول من قال: إنه لا توبة له، حيث أورد عن سفيان أنه قال: إذا جاءنا القاتل يسأل عن التوبة قبل أن يفعل قلنا: لا توبة لك، فإذا جاءنا وقد فعل قلنا له: تُب.
أي: يترك الأمر على التغليظ، فإذا قلنا له توبة استهان الناس بالدماء وهي أعظم من قطع عضو أو أخذ شيء من المال، فإذا جاء المرء يسأل قبل أن يقتل قلنا: لا توبة لك تغليظاً عليه، أما إذا جاءنا وقد فعل فإنا إذا قلنا له: لا توبة لك كان ذلك كفتوى الراهب لقاتل التسعة والتسعين، والحل أن يقال له: تب، فيظل الزجر والتغليظ عاماً للأمة، ومن فعل لا يضيق عليه، بل يفتح له باب التوبة.
وهذا دليل على فقه وحكمة السلف الصالح، فقد كانوا يعلمون كيف يتعاملون مع النفوس، ولا يقال: هذا نفاق، بل من جهلنا نحن ومن قلة فهمنا أن نقول مثل هذا الكلام؛ فأولئك ربانيون يربون الناس على الحق والخير والهدى، وفرق بين أن تقول للناس على العموم: إن القاتل متوعد بكذا وكذا، وبين قولك لمن قتل: تب، لا كحال الذين يفتون ويعممون، كالذين يقولون: لا تأخذوا بفتوى من يقول: إن تارك الصلاة كافر، بل الصحيح -أيها الناس- أن تارك الصلاة لا يكفر، ومذهب أهل السنة والجماعة هو هذا! فما حاجة الأمة إلى مثل هذا الكلام؟! فهذا الكلام ليس فيه حكمة، والصواب أن يقول المرء كما يقول العلماء، فإذا جاء إليه رجل تارك للصلاة تائباً وسأله فيمكن أن يقول له: استغفر الله وتُب، وأرى أنك لا تجدد عقد الزواج، ولكن يجب عليك أن تصلى، فالصلاة أمرها كذا. فلو فعل ذلك هانت المسألة وتقاربت وجهات النظر في الخلاف، لكن المشكلة أن بعض الناس إذا رأى من يخالفه كان لا بد له من أن يعلن، وقد يشهر، وهذه مشكلة الفقه إذا كان فقهاً بالمسائل ولم يكن فقهاً بحكمة الدعوة وبواقع المدعوين، والله تعالى إنما أنزل علينا هذا الدين ليعالج به أمراض قلوبنا ويصلح به أحوالنا، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذا بما لا يعالج به هذا، مع أنه يأتيه الأمر عاماً من عند ربه، ومع أنه يعظ الناس موعظة عامة إذا وعظهم في مجمع عام.